منذ فجر الوعي الإنساني وبداية التفكير الفلسفي، يطرح البشر سؤالاً جوهرياً ومحورياً يمس جوهر وجودهم وطبيعة حياتهم: "هل نحن أحرار حقاً في اختياراتنا أم مسيرون بقدر محتوم لا فكاك منه؟" هذا السؤال العميق ليس مجرد تأمل فلسفي نظري أو جدل أكاديمي، بل يمس صميم المسؤولية الأخلاقية والعدالة الإلهية والمعنى الحقيقي من الحياة ذاتها.
في الفكر الإسلامي العريق، هذه المسألة الفلسفية العميقة تحمل أبعاداً روحية ولاهوتية عميقة تتعلق بطبيعة الإنسان الحقيقية وعلاقته المعقدة بالله سبحانه وتعالى. فإذا كان الإنسان مسيراً بالكامل في كل تصرفاته، فكيف يُحاسب بعدالة على أفعاله التي لم يختر فعلها؟ وإذا كان مخيراً تماماً في كل شيء، فأين دور القدر والقضاء الإلهي والحكمة الربانية في تدبير الكون؟
القرآن الكريم، بحكمته البالغة وعمقه الفلسفي المذهل، يقدم إجابات شاملة ومتوازنة ومعقولة لهذا السؤال الفلسفي المعقد، مؤسساً لفهم عميق ومتناغم يجمع بانسجام تام بين حرية الإرادة الإنسانية الحقيقية وسيادة الإرادة الإلهية المطلقة دون تناقض أو تعارض أو إشكالية منطقية.
تعريف المفاهيم الأساسية بوضوح
قبل الخوض في عمق المسألة، من الضروري تعريف المفاهيم الأساسية بدقة ووضوح لتجنب اللبس والغموض.
التخيير (حرية الإرادة)
التخيير هو أن يكون للإنسان قدرة حقيقية وفعلية على الاختيار الحر بين البدائل المختلفة المتاحة أمامه، وأن يكون مسؤولاً مسؤولية كاملة عن نتائج اختياراته وقراراته. هذا المفهوم العميق يؤسس للمسؤولية الأخلاقية الحقيقية والثواب والعقاب العادل، ويجعل الإنسان فاعلاً حقيقياً وليس مجرد آلة مبرمجة أو دمية متحركة.
التسيير (الجبرية المطلقة)
التسيير هو أن تكون أفعال الإنسان وتصرفاته محددة سلفاً ومكتوبة مسبقاً بقدر الله وقضائه الأزلي، وأن الإنسان لا يملك اختياراً حقيقياً أو حرية فعلية، بل يتحرك ويتصرف وفق ما قُدِّر له منذ الأزل، مثله في ذلك مثل سائر المخلوقات والظواهر الطبيعية في الكون الواسع.
الأدلة القرآنية على حرية الإرادة الإنسانية
القرآن الكريم يحتوي على آيات صريحة وواضحة تؤكد حرية الإنسان في الاختيار والقرار، وتجعل منه كائناً مسؤولاً عن أفعاله وتصرفاته.
آية الاختيار الحر الصريح
يقول الله تعالى: "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر". هذه الآية الكريمة صريحة ووаضحة في إثبات حرية الاختيار الإنسانية. كلمة "شاء" تدل بوضوح على الإرادة والاختيار الحر والقرار الواعي. فالله سبحانه وتعالى يقدم الحق والهداية بوضوح، والإنسان حر تماماً في قبوله أو رفضه، في الإيمان به أو الكفر.
آية بيان الطريق والخيار
يقول تعالى: "إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً". هذه الآية العظيمة تبين أن الله سبحانه وتعالى يوضح الطريق الصحيح للإنسان ويبين له الصواب من الخطأ والخير من الشر، لكن الخيار النهائي والقرار الأخير متروك للإنسان نفسه. عبارة "إما شاكراً وإما كفوراً" تؤكد بوضوح ازدواجية الخيار وحرية القرار الكاملة.
آية العدالة الإلهية والمسؤولية
يقول الله عز وجل: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً". هذه الآية الكريمة تؤسس لمبدأ العدالة الإلهية المطلقة القائم على حرية الاختيار الحقيقية. فالله تعالى لا يعذب أحداً إلا بعد إقامة الحجة عليه وتوضيح الطريق له، مما يعني بوضوح أن للإنسان قدرة حقيقية وفعلية على الاختيار والاستجابة، وإلا لما كان العذاب عادلاً أو مبرراً.
الأدلة القرآنية على القضاء والقدر الإلهي
في المقابل، يحتوي القرآن الكريم على آيات عديدة تؤكد سيطرة الله التامة على الكون وعلمه الأزلي بكل شيء، مما يثير تساؤلات عميقة حول طبيعة حرية الإرادة الإنسانية.
آية المشيئة الإلهية الشاملة
يقول الله تعالى: "وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين". هذه الآية الكريمة تبين أن مشيئة الإنسان وإرادته محاطة ومحدودة بمشيئة الله العظيمة وإرادته المطلقة. فالإنسان لا يريد شيئاً ولا يستطيع فعل أي أمر إلا في إطار ما شاء الله تعالى أن يكون ممكناً ومتاحاً في هذا الكون.
آية الكتاب المبين والعلم الأزلي
يقول سبحانه: "ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها". هذه الآية تؤكد أن كل ما يحدث في الكون من أحداث وظواهر مكتوب ومسجل في اللوح المحفوظ منذ الأزل وقبل خلق الخليقة. علم الله الأزلي الشامل يحيط بكل شيء قبل حدوثه ووقوعه.
آية الخلق الشامل
يقول تعالى: "والله خلقكم وما تعملون". هذه الآية العميقة تبين أن الله هو خالق الإنسان وخالق أعماله وتصرفاته أيضاً. هذا يثير تساؤلاً فلسفياً عميقاً ومعقداً: إذا كان الله تعالى خالق أعمال الإنسان، فكيف يُحاسب الإنسان عليها؟ وأين تكمن المسؤولية الشخصية في هذا السياق؟
الموقف القرآني المتوازن: نظرية الكسب
الحكمة القرآنية العميقة تتجاوز الثنائية المتصلبة والمتطرفة بين التخيير المطلق والتسيير المطلق، وتقدم فهماً متوازناً ومعقولاً يُعرف في الفقه الإسلامي بـ"الكسب" أو النظرية الوسطية المتوازنة. الإنسان مخير في إطار المسير، أي أنه يملك حرية حقيقية وفعلية في الاختيار والقرار، لكن ضمن الحدود والظروف والإمكانيات التي قدرها الله له وهيأها أمامه.
هذا الفهم العميق والمتوازن يحل الإشكالية الفلسفية المعقدة بطريقة راقية ومقنعة: الإنسان حر فعلاً في اختياراته فيُحاسب عليها بعدالة مطلقة، لكن هذه الحرية تعمل وتتحرك ضمن نظام كوني شامل ومحكم يديره الله بحكمته المطلقة وعلمه الشامل. مثل راكب السيارة الذي يختار طريقه ووجهته بحرية كاملة، لكن ضمن شبكة الطرق الموجودة والقوانين الفيزيائية والمرورية التي تحكم الحركة والانتقال.
آراء العلماء والمذاهب الإسلامية المختلفة
علماء الإسلام عبر التاريخ تناولوا هذه المسألة الفلسفية العميقة بطرق مختلفة ومتنوعة، مطورين نظريات متطورة لفهم العلاقة المعقدة بين الحرية الإنسانية والإرادة الإلهية.
المدرسة الأشعرية
الإمام أبو الحسن الأشعري طور نظرية "الكسب" المتطورة التي تقول أن الله تعالى هو خالق الأعمال والأفعال، لكن الإنسان "كاسب" لها، أي مسؤول ومؤاخذ عليها أخلاقياً ودينياً. الإنسان لا يخلق فعله من العدم، لكنه يكتسبه ويتبناه بإرادته واختياره، فيتحمل مسؤوليته الأخلاقية الكاملة. هذه النظرية تحافظ على قدرة الله المطلقة وفي نفس الوقت تؤكد المسؤولية الإنسانية.
المدرسة الماتريدية
الإمام أبو منصور الماتريدي يؤكد أن للإنسان قدرة حقيقية وإرادة فعلية وحقيقية، وأن أفعاله الاختيارية حقيقية وليست مجازية أو وهمية. الله يعلم اختيارات الإنسان مسبقاً بعلمه الأزلي، لكن هذا العلم السابق لا يجبر الإنسان على فعل معين أو يسلب منه حريته. العلم شيء والإجبار شيء آخر مختلف تماماً.
موقف ابن تيمية
الإمام ابن تيمية يقول أن الإنسان فاعل حقيقي ومختار فعلاً، وأن الله تعالى خلق فيه القدرة والإرادة الحقيقية وجعله سبباً حقيقياً ومؤثراً لأفعاله. التقدير الإلهي الأزلي لا ينافي أو يناقض كون الإنسان فاعلاً مختاراً، بل يؤكده ويدعمه. فالله قدر الأشياء بأسبابها، والإنسان سبب حقيقي لأفعاله.
التوضيح النبوي للمسألة
السنة النبوية الشريفة تقدم توضيحاً عملياً ومعقولاً لهذه المسألة الفلسفية المعقدة. روى البخاري ومسلم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم... فقال: "ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار". قالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا ونذع العمل؟ قال: "لا، اعملوا، فكل ميسر لما خلق له".
هذا الحديث العظيم والمهم يوضح أن العلم الإلهي السابق والأزلي لا يبرر ترك العمل أو التواكل السلبي. فرغم أن الله يعلم مصير كل إنسان مسبقاً بعلمه الأزلي، إلا أن على الإنسان أن يعمل ويجتهد ويسعى. كل إنسان "ميسر لما خلق له" - أي مهيأ ومعان ومساعد على الطريق الذي سيختاره بإرادته واختياره الحر.
التطبيق العملي في الحياة اليومية
فهم هذه المسألة الفلسفية العميقة ليس مجرد تأمل نظري أو جدل أكاديمي، بل له تطبيقات عملية عميقة ومؤثرة في حياة المسلم اليومية:
في العبادة والطاعة
المسلم يجتهد في الطاعة والعبادة ويسعى للخير والبر، مؤمناً أن الله سيعينه ويوفقه فيما يختاره من خير وصلاح، ولا يتكل على القدر ليبرر تقصيره في الواجبات أو تركه للمستحبات. السعي والاجتهاد جزء من القدر وليس منافياً له.
في المصائب والابتلاءات
عند وقوع البلاء والمصائب، المسلم يصبر ويحتسب ويرضى بقضاء الله، عالماً أن ما أصابه كان مقدراً ومكتوباً، لكنه أيضاً يأخذ بالأسباب المشروعة ويسعى لتغيير ما يمكن تغييره وتحسين ما يمكن تحسينه. الرضا بالقدر لا يعني السلبية أو ترك الأسباب.
في التخطيط والسعي
المؤمن يخطط للمستقبل ويسعى ويجتهد ويأخذ بكل الأسباب المتاحة، لكنه يفوض النتائج والثمار لله تعالى، عالماً أن سعيه واجتهاده جزء من القدر المقدور، وأن النتائج النهائية بيد الله وحده. هذا يحقق التوازن النفسي والراحة القلبية.
في التعامل مع الآخرين
لا يحكم المسلم على الناس بناءً على اعتقاده في قدرهم أو مصيرهم المجهول، بل يتعامل معهم على أساس أفعالهم واختياراتهم الظاهرة، ويدعوهم للخير ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، عالماً أن الهداية بيد الله لكن السعي في الدعوة واجب ومطلوب.
خاتمة: الحكمة الإلهية في التوازن الكامل
سؤال "هل الإنسان مخير أم مسير؟" ليس مجرد لغز فلسفي معقد أو جدل نظري، بل مفتاح حقيقي لفهم طبيعة الإنسان الحقيقية ومكانته الفريدة في الكون الواسع. القرآن الكريم، بحكمته البالغة وعمقه الفلسفي المذهل، لا يقدم إجابة مبسطة أو حلولاً سطحية، بل فهماً عميقاً ومتوازناً ومعقولاً يحترم تعقيد الطبيعة الإنسانية ويقدر كرامة الإنسان.
الإنسان في التصور القرآني الراقي مخير في إطار المسير - يملك حرية حقيقية وفعلية في الاختيار والقرار، لكن ضمن نظام كوني شامل ومحكم يديره الله بحكمته المطلقة وعدالته التامة. هذا الفهم العميق يحقق العدالة الإلهية المطلقة ويؤكد الحكمة الربانية، ويجعل الإنسان مسؤولاً حقاً عن أفعاله دون أن ينفي سيادة الله على كونه.
الدرس العملي الأهم والأكثر أهمية هو أن المؤمن الحق يسعى ويجتهد ويأخذ بكل الأسباب المشروعة والمتاحة، لكنه يفوض النتائج والثمار لله تعالى، عالماً ومؤمناً أن سعيه نفسه واجتهاده جزء من القدر المكتوب. في هذا التوازن الحكيم والراقي تكمن سر الشخصية المسلمة المتوازنة: فاعلة ونشطة لكن متواضعة، ساعية ومجتهدة لكن متوكلة على الله، مؤمنة بقدرها لكن عاملة لتحسينه.
وفي النهاية، تبقى هذه المسألة الفلسفية العميقة تذكيراً دائماً ومستمراً بأن الحكمة الإلهية أعظم وأوسع من أن يحيط بها العقل البشري المحدود كاملة، وأن الإيمان الحق والصادق يجمع بانسجام بين إعمال العقل والتفكير والتسليم لله فيما يتجاوز حدود الفهم البشري المحدود. "وفوق كل ذي علم عليم".